الخصيصة الأولى من الخصائص العامة للإسلام هي: الربانية
والربانية ـ كما يقول علماء العربية ـ مصدر صناعي منسوب إلى "الرب"، زيدت فيه الألف والنون، على غير قياس، ومعناه: الانتساب إلى الرب، أي: الله، سبحانه وتعالى، ويطلق على الإنسان أنه "رباني" إذا كان وثيق الصلة بالله، عالما بدينه وكتابه، معلما له. وفي القرآن الكريم:
ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون.
والمراد من الربانية هنا أمران:
- ربانية الغاية والوجهة
- ربانية المصدر والمنهج
1-ربانية الغاية والوجهة
فأما ربانية الغاية والوجهة، فنعني بها: أن الإسلام يجعل غايته الأخيرة وهدفه البعيد، هو حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، والحصول على مرضاته، فهذه هي غاية الإسلام، وبالتالي هي غاية الإنسان، ووجهة الإنسان، ومنتهى أمله، وسعيه، وكدحه في الحياة: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)، وأن إلى ربك المنتهى
ولا جدال في أن للإسلام غايات وأهدافا أخرى إنسانية واجتماعية، ولكن عند التأمل، نجد هذه الأهداف في الحقيقة خادمة للهدف الأكبر، وهو مرضاة الله تعالى، وحسن مثوبته. فهذا هو هدف الأهداف، أو غاية الغايات.
في الإسلام تشريع ومعاملات، ولكن المقصود منها هو تنظيم حياة الناس حتى يستريحوا، ويبرأوا من الصراع على المتاع الأدنى، ويفرغوا لمعرفة الله تعالى، وعبادته، والسعي في مراضيه.
وفي الإسلام جهاد وقتال للأعداء، ولكن الغاية هي: حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
وفي الإسلام حث على المشي في مناكب الأرض، والأكل من طيباتها، ولكن الغاية هي القيام بشكر نعمة الله وأداء حقه: (كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور)
وكل ما في الإسلام من تشريع وتوجيه وإرشاد، إنما يقصد إلى إعداد الإنسان ليكون عبدا خالصا لله، لا لأحد سواه. ولهذا كان روح الإسلام وجوهره هو التوحيد.
من ثمرات هذه الربانية في النفس والحياة
ومما لا ريب فيه أن لهذه الربانية ـ ربانية الغاية والوجه ـ فوائد وأثارا جمة في النفس والحياة، يجني الإنسان ثمارها في هذه الدنيا، فضلا عن ثمراتها في الآخرة. وهي ثمار في غاية الأهمية.
أولا- معرفة غاية الوجود الإنساني:
أن يعرف الإنسان لوجوده غاية، ويعرف لمسيرته وجهة. ويعرف لحياته رسالة، وبهذا يحس أن لحياته قيمة ومعنى، ولعيشه طعما ومذاقا، وأنه ليس ذرة تافهة تائهة في الفضاء، ولا مخلوقا سائبا يخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء، كالذين جحدوا الله أو شكوا فيه، فلم يعرفوا: لماذا وجدوا؟ ولماذا يعيشون؟ ولماذا يموتون؟كلا، إنه لا يعيش في عماية، ولا يمشي إلى غير غاية، بل يسير على هدى من ربه، وبينة من أمره، واستبانة لمصيره، بعد أن عرف الله وأقر له بالوحدانية.
ثانيا- الاهتداء إلى الفطرة:
ومن ثمرات هذه الربانية وفوائدها، أن يهتدي الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها، والتي تطلب الإيمان بالله تعالى، ولا يعوضها شيء غيره، يقول تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرت الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله).
واهتداء الإنسان إلى فطرته ليس كسبا رخيصا، بل هو كسب كبير، وغنى عظيم، فيه يعيش المرء في سلام ووئام مع نفسه، ومع فطرة الوجود الكبير من حوله، فالكون كله رباني الوجهة، يسبح بحمد الله: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده (
والحقيقة أن في فطرة الإنسان فراغا لا يملؤه علم، ولا ثقافة ولا فلسفة، إنما يملؤه الإيمان بالله جل وعلا.
وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر، والجوع والظمأ، حتى تجد الله، وتؤمن به، وتتوجه إليه.
ثالثا- سلامة النفس من التمزق والصراع:
ومن ثمرات هذه الربانية ـ ربانية الغاية والوجهة ـ سلامة النفس البشرية من التمزق والصراع الداخلي، والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات، وشتى الاتجاهات.
لقد اختصر الإسلام غايات الإنسان في غاية واحدة هي إرضاء الله تعالى، وركز همومه في هم واحد هو العمل على ما يرضيه سبحانه.
ولا يريح النفس الإنسانية شيء كما يريحها وحدة غايتها، ووجهتها في الحياة، فتعرف من أين تبدأ، وإلى أين تسير، ومع من تسير.
ولا يشقي الإنسان شيء مثل تناقض غاياته، وتباين اتجاهاته، وتضارب نزعاته، فهو حينا يشرق، وحينا يغرب، وتارة يتجه إلى اليمين، وطورا يتجه إلى اليسار، ومرة يرضى زيدا فيغضب عمرو، وأخرى يرضي عمرا فيغضب زيد، وهو في كلا الحالين حائر بين رضى هذا وغضب ذاك.
ومن في الناس يرضى كل نفس وبين هوى النفوس مدى بعيد؟!
إن عقيدة التوحيد قد منحت المسلم يقينا بأن لا رب إلا الله يخاف ويرجى، ولا إله إلا الله، يجتنب سخطه، ويلتمس رضاه. وبهذا أخرج المسلم كل الأرباب الزائفة من حياته، وحطم كل الأصنام المادية والمعنوية من قلبه، ورضي بالله وحده ربا، عليه يتوكل، وإليه ينيب، وفي فضله يطمع، ومن قوته يستمد، وله يتودد، وإليه يحتكم، وبه يعتصم: (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم).
رابعا- التحرر من العبودية للأنانية والشهوات:
ومن ثمرات هذه الربانية: أنها ـ حين تستقر في أعماق النفس ـ تحرر الإنسان من العبودية لأنانيته، وشهوات نفسه، ولذات حسه، ومن الخضوع والاستسلام لمطالبه المادية، ورغباته الشخصية.
وذلك أن الإنسان "الرباني" يقفه إيمانه بالله وباليوم الآخر موقف الموازنة بين رغبات نفسه، ومتطلبات دينه، بين ما تدفعه إليه شهواته، وما يأمره به ربه، بين ما يمليه عليه الواجب، بين متعة اليوم، وحساب الغد، أو بين لذة عاجلة في دنياه، وحساب عسير ينتظره في أخراه.
وهذه الموازنة والمساءلة جديرة أن تخلع عنه نير العبودية للهوى والشهوات، وأن ترتفع به إلى أفق أعلى من الأنانية والبهيمية، أفق الإنسانية المتحررة التي تتصرف بوعيها وإرادتها، لا بوحي بطنها وفرجها وغريزتها الحيوانية.
2- ربانية المصدر والمنهج:
ذكرنا ما يتعلق بالمعنى الأول للربانية، وهو ربانية الغاية والوجهة، وبقي المعنى الآخر، وهو ربانية المصدر والمنهج. ونعني به أن المنهج الذي رسمه الإسلام للوصول إلى غاياته وأهدافه، منهج رباني خالص، لأن مصدره وحي الله تعالى إلى خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم.
لم يأت هذا المنهج نتيجة لإرادة فرد، أو إرادة أسرة، أو إرادة طبقة، أو إرادة حزب، أو إرادة شعب، وإنما جاء نتيجة لإرادة الله، الذي أراد به الهدى والنور، والبيان والبشرى، والشفاء والرحمة لعباده. كما قال تعالى يخاطبهم: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا)، (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين .
موضع الرسول في هذا المنهج الإلهي:
الله تعالى هو صاحب هذا المنهج، ولهذا يضاف إليه فيقال: منهج الله، أو "صراط الله" على حد تعبير القرآن العزيز، وإضافته إلى الله تعني أن الله ـ جل شأنه ـ هو واضعه ومحدده، كما أنه غايته ومنتهاه.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الداعي إلى هذا المنهج أو هذا الصراط، المبين للناس ما اشتبه عليهم من أمره. يقول تعالى مخاطبا رسوله: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، ألا إلى الله تصير الأمور
ميزة الإسلام بين المناهج القائمة في العالم:
إن الإسلام هو المنهج أو المذهب أو النظام الوحيد في العالم، الذي مصدره كلمات الله وحدها، غير محرفة ولا مبدلة و لامخلوطة بأوهام البشر، وأغلاط البشر، وانحرافات البشر.
والمناهج أو الأنظمة التي نراها في العالم إلى اليوم ثلاثة، فيما عدا الإسلام طبعا:
1.منهج، أو مذهب، أو نظام مدني بشري محض، مصدره التفكير العقلي، أو الفلسفي لبشر فرد، أو مجموعة من الأفراد، كالشيوعية، والرأسمالية والوجودية، وغيرها.
2. منهج أو نظام ديني بشري كذلك. مثل الديانة البوذية القائمة في الصين، واليابان، والهند، والتي لا يعرف لها أصل إلهي، أو كتاب سماوي، فمصدرها إذن فكر بشري.
3. منهج أو مذهب ديني محرف، فهو ـ وإن كان إلهيا في أصله ـ عملت فيه يد التحريف والتبديل فأدخلت فيه ما ليس منه، وحذفت منه ما هو فيه، واختلط فيه كلام الله بكلام البشر، فلم يبق ثمت ثقة بربانية مصدره، وذلك كاليهودية والنصرانية، بعد ثبوت التحريف في التوراة والإنجيل نفسيهما، فضلا عما أضيف إليهما من شروح وتأويلات ومعلومات بشرية، بدلت المراد من كلام الله.
أما الإسلام فهو المنهج الفذ الذي سلم مصدره من تدخل البشر، وتحريف البشر، ذلك أن الله تعالى تولى حفظ كتابه، ودستوره الأساسي بنفسه، وهو القرآن المجيد، وأعلن ذلك لنبيه ولأمته فقال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.
من كتاب مدخل لمعرفة الإسلام .. للدكتور القرضاوي
ملحوظة: كتاب للدكتور القرضاوي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire